الحلقة الثالثة | لماذا فتح المسلمين الأندلس ؟

0

الحلقة الثالثة | لماذا فتح المسلمين الأندلس ؟


إعداد / شامل حلمي


هناك عدة اسباب وراء فتح المسلمين للأندلس وذلك ردا علي الغرب الذي يدعي انها كانت احتلالا وغزوا! :

أولاً :إن أهم مقاصد الجهاد التي شرع من أجلها تبليغ رسالة التوحيد ، بكسر جميع الطواغيت التي تحول بينها وبين الناس ، ودعوة الناس إلى الإسلام من غير إكراه ولا إجبار ، بل عن طواعية واختيار . 
يقول الله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) البقرة/193

ثانياً :
كانت " الأندلس " واسمها القديم " أيبيرية " خاضعةً للإمبراطورية الرومانية ، وفي مطلع القرن الخامس الميلادي – أي حوالي عام 410 م اجتاحتها قبائل " القُوط " الأريوسية المذهب ، وأسسوا فيها دولةً قُوطِيَّة عاصمتها " طليطلة " .
ومن هنا نفهم أن شعوب " الأندلس " الأصلية من الكنعانيين الكاثوليك كانت - قبل الفتح الإسلامي - خاضعة للنفوذ القوطي ، وتكوَّنَ سكانها من طبقات أربعة متناقضة متصارعة : طبقة القوط الحكام المستعمرين ، وطبقة الأعيان الرومانيين ومعهم الإقطاعيون ورجال الدين ، وطبقة اليهود ، وطبقة الشعب العامل من سكان البلاد الأصليين . 
فهي بلاد محتلة مضطهدة أصلا ، ولم تكن تحت حكم سكانها الأصليين ، ولم يكن المسلمون هم المبتدئين للاحتلال ، إنما خلصوا البلاد من احتلال ظالم إلى بلد مسلم يختار أهله عقيدة المسلمين ، وينتسبون إلى دولتهم .


ثالثاً :
زيادة على الاحتلال الذي فرضته القبائل القوطية الغربية على بلاد الأندلس ، كان التسلط والظلم والاضطراب سمةً بارزة في فترة حكمهم التي امتدت نحو ثلاثة قرون .
يقول حسين مؤنس في كتابه "فجر الأندلس" (ص/8،18-19) :
" لكن سلطانهم لم يستقر في البلاد أول الأمر بسبب ما ثار بينهم وبين أهل البلاد من منازعات دينية ، وبسبب ما شجر بين أمرائهم من خلافات ، ولهذا ظلت البلاد طوال القرن السادس نهبا للحروب الأهلية ، وما ينجم عنها من الفوضى وسوء الحال...- حتى كان آخر حكام القوط – واحد اسمه " رودريكو " ( لذريق )...والظاهر الذي لا تستطيع المناقشة إخفاءه أن الرجل كان يشعر باضطراب الأمر عليه ، وأنه ظل حياته متخوفا من وثبة تكون من أحد أعدائه الكثيرين ؛ لأن هؤلاء الأعداء لم يكونوا أولاد " غيطشة " وحدهم – الذين استولى " لذريق " على ملكهم – بل كانوا في واقع الأمر جلة الشعب الإيبيري الروماني واليهود ، أي معظم أهل البلاد التي اقتحمها القوط عليهم " انتهى باختصار .

وقد حاول كثير من المؤرخين الأسبان أن يدافعوا عن دولة القوط - تعصبا منهم في رفض الوجود الإسلامي في تلك البلاد - إلا أن كتب التاريخ مليئةٌ بالأدلة على ما ذكره الأستاذ حسين مؤنس في شأن رفض أهل البلاد حكم القوطيين ، حتى نقل في (ص/10) عن " رفائيل بالستيروس " المؤرخ الإسباني قوله : إن العرب لو لم يتدخلوا في سنة 711هـ في شؤون الجزيرة ، ويضعوا نهاية لهذا العصر المضطرب ، لَبَلَغَ القوطُ بإسبانيا مبلغا من السوء لا يسهل تصوره .

رابعاً :
لما اشتد ظلم حكام القوط في تلك البلاد ، وضاق الشعب بهم ، أرسلوا إلى المسلمين يطلبون منهم تخليصهم والنجاة بهم ، فقد أجمعت المصادر العربية على ذكر إرسال حاكم " سبتة " واسمه " يوليان " أو جوليان " إلى موسى بن نصير يطلب منه دخول البلاد وتخليصهم من شر " لذريق " ، كما تذكر كثير من المصادر إرسال أبناء " غيطشة " إلى موسى بن نصير يستنجدون به على مَن غصبهم ملك أبيهم ، بل إن المصادر التاريخية الغربية تنسب إلى اليهود المضطهدين في " الأندلس " من قبل القوط استنجادَهم بِمَن وراء البحر من " الأفارقة " أو " المسلمين " ليخلصوهم من ظلم " لذريق " وأعوانه ، وهو أمر وإن أنكره بعض المؤرخين ، غير أن المتفق عليه بينهم أن اليهود تعرضوا في تلك الفترة إلى اضطهاد كاد يفنيهم ولا يبقي لهم أثرا . انظر "فجر الأندلس" لحسين مؤنس (ص/14) 

وفي النصوص الباقية الموروثة كثير من الأدلة على أن الأندلسيين استقبلوا المسلمين استقبال الفاتحين ، ومن ذلك :

يقول صاحب كتاب "أخبار مجموعة في فتح الأندلس" (ص/24) متحدثاً عن الخدمات التي قدمها بعض الإسبان لموسى بن نصير : 
" فلما نزل الجزيرة ، قيل له : اسلك طريقه ، قال : ما كنت لأسلك طريقه . قال له العلوج الأدلاء : نحن ندلك على طريق هو أشرف من طريقه ، ومدائن هي أعظم خطباً من مدائنه ، لم تُفتح بعد ، يفتحها الله عليك إن شاء الله " انتهى .
ويقول أيضاً : 
" ثم سار إلى مدينة قرمونة ، فقدَّم إليها العلوج الذين معه ، وهي مدينة ليس بالأندلس أحصن منها ، ولا أبعد من أن ترجى بقتال أو حصار ، وقد قيل له حين دنا منها : ليست تُؤخذ إلا باللطف ، فقدَّم إليها علوجاً ممن قد أمنه واستأمن إليه ، مثل " يليان " ، ولعلهم أصحاب " يليان " ، فأتوهم على حال الأفلال ، معهم السلاح ، فأدخلوهم مدينتهم ، فلما دخلوها بعث إليهم الخيل ليلاً ، وفتحوا لهم الباب ، فوثبوا على حراسه ، ودخل المسلمون قرمونة " انتهى.
بل إن بعض أساقفة النصارى شاركوا في مساعدة المسلمين على الفتح ، منهم " أوباس " أسقف " إشبيلية " كما في كتاب "العرب لم يغزوا الأندلس" (ص/187)
وينقل صاحب كتاب "تاريخ النصارى في الأندلس" (ص/45) عن ما جاء في سيرة القديس " سانت ثيودارد" رئيس أساقفة " أربونة " الذي عاش حوالي سنة (266هـ) أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى " لانجدوك " ، انحاز اليهود إليهم ، وفتحوا لهم أبواب مدينة 
" طولوشة " .

والمسلمون يؤمنون بأن نصرة المظلوم وإحقاق العدل والسلم من أعظم مقاصد الجهاد في الشريعة الإسلامية.

يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "العلاقات الدولية في الإسلام" (83) :
" الإسلام ينظر إلى الرعايا الذين يُحكَمون بالظلم ويُقيدون في حرياتهم نظرة رحيمة عاطفة ، ينصرهم إذا استنصروه ، ويرفع عنهم نير الطغيان إن هم استعانوا به " انتهى .
وذلك ما شهد به بعض اليهود حين أدركوا عظ
يم الفضل الذي أسداه المسلمون لهم في توفير حياة كريمة ، وحرية لم يشهدوا لها مثيلا عبر تاريخ وجودهم في أوروبا كلها . 

يقول حاييم الزعفراني اليهودي في كتابه "ألف سنة من حياة اليهود في المغرب" (ص/13) : 
" لقد عرفت اليهودية الأندلسية في مجموعها حياة أكثر رخاء ، وأكثر اطمئناناً ، كما لم تعرفها في مكان آخر " انتهى . 
ويقول نسيم رجوان - رئيس تحرير جريدة اليوم الإسرائيلية - : 
" كان اليهود قد عانوا خلال قرون الكثير من الشقاء والبؤس ، حيث كان الملوك الإسبان القساة الغلاظ بعيدين كل البعد عن الشفقة والرحمة . وعندما دخل المسلمون إسبانيا لم يكتفوا بتحرير اليهود من الاضطهاد ، ولكنهم شجَّعوا بينهم نشر حضارة كانت توازي بخصبها وعمقها أشهر الحضارات في مختلف العصور " انتهى نقلا عن كتاب "أهل الكتاب في المجتمع الإسلامي" (ص/49).

خامساً :
ويُتَوَّجُ ما سبق بالقطع واليقين ، حين نستحضر أن فتح تلك البلاد لم يستغرق إلا نحو ثلاثة سنين (92هـ - 95هـ) وصل فيها المسلمون إلى فرنسا ، ولم يشارك فيه إلا بضعة آلاف من الجنود ، مما يقطع لك بأن الأمر لم يكن فتحا عسكريا بالقدر الذي كان فتحا فكريا وعقائديا ، آمن فيه سكان " الأندلس " بعقيدة المسلمين ، واختاروا – عن حب وطواعية – التسليم لهذا الدين الجديد ، والتخلص من طغيان الكنيسة والإقطاع الذي كان سائدا قبل المسلمين ، وقد كتب في ذلك واحد من أشهر المؤرخين الإسبان ، واسمه " اغناسيو أولاغي " كتابا اشتهر في السبعينيات اسمه " الثورة الإسلامية في الغرب " ، ترجمه واختصره الأستاذ المؤرخ المحقق " إسماعيل الأمين " تحت عنوان " العرب لم يغزوا الأندلس " ، طباعة " رياض الريس للكتب والنشر " ، أراد فيه المؤلف بيان أن التحول إلى الإسلام في الأندلس لم يتم إلا عبر حركة الأفكار وتصارعها ، ثم هيمنة ما يسميه المؤلف بالفكرة/القوة ، التي شكلت عصب الحضارة العربية الإسلامية في ثلاثة أرباع العالم يومها ، ورغم ما في الكتاب من مغالاة في نقد كل ما اشتهر في تاريخ الأندلس ، إلا أن الذي يهمنا فيه بعض النصوص التي توحي بأن دخول الإسلام الأندلس لم يكن اعتراضا وقهرا ، بل كان فتحا للقلوب وتنويرا للعقول ، وليتحمل القارئ الكريم طول النص المنقول ، فإنه من أبدع النصوص التي كتبها أعداء الإسلام في أمر يثيره كثير من الحاقدين :
جاء في (ص/55- 66) :
" هكذا يتضاءل الغزو الأجنبي إلى حادث عرضي في حرب أهلية ، فهل يبقى من صلة بين هذا الحدث العسكري من جهة ، وبين اعتناق الأيبيريين الإسلام ، ثم نشوء حضارة إسلامية في أيبيريا من جهة ثانية ؟
في الأبحاث المتعلقة بخرافة الغزو جاءت الأرقام دقيقة ، وصل طارق بسبعة آلاف رجل لهزيمة رودريك ، وجاء موسى بن نصير على رأس ثمانية عشر ألف رجل ليخضع الأيبيريين لسلطانه ، أحدث خمسةٌ وعشرون ألف رجل هذا التحول الهائل في اللاتينية والمسيحية والزواج الأحادي ، في ضربة واحدة بدَّل الأيبيريون أعرافهم وتقاليدهم وديانتهم ، بعد هذا الإنجاز العظيم يبادر العرب دون أي تعزيز لقواتهم ومواقعهم إلى غزو فرنسا !

لم يكن هناك عدوان عسكري ، بل أزمة ثورية ، ودعوة حملها الفقهاء وليس الجنرالات . 

إن العلماء وحدهم يدركون حركة الشعوب ويقدرون على قيادتها ، أما السيادة العسكرية فلا يمكن أن تستمر ثمانية قرون في الأندلس ، وإلى الأبد في مساحات شاسعة من العالم " 

لقد كان الفاتح الإسلامي يجلب معه أشكالا راقية من التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي رحبت بها الجماهير العريضة في الأندلس، وصفقت لها، لأنها تتفق مع احتياجاتها، بعد أن كانت تلك الجماهير تعيش في عالم عبودي منحل للغاية، أو عالم إقطاعي مقطع الأوصال.

فقد قامت الدولة الإسلامية بنظامها الديمقراطي لتحل محل الحكم المطلق الذي ساد العالم متمثلا في الإمبراطورية الفارسية شرقا، والإمبراطورية البيزنطية غربا، وبذلك قضت دولة الإسلام على فكرة تأليه الحكام، وقضت على سلطانهم المطلق، وجعلت ذلك كله للقانون الإسلامي الذي تمثل في القرآن الكرم، والسنة النبوية، والإجماع، الذي يطلق عليه الاجتهاد الجماعي، والقياس، الذي هو اجتهاد فردي.وهدف الدولة الإسلامية الذي قامت من أجله هو تحقيق العدل المطلق والكامل بين جميع المواطنين، وتمثل خير تمثيل في الحرية السياسية والحرية الاجتماعية والاقتصادية، والحرية الدينية، في ظل المساواة والإخاء، وفي مراعاة للمصلحة العامة التي هي فوق مصالح الأفراد.

وبذلك ألغى الإسلام الامتياز الطبقي الذي كانت تتمتع به طائفة من دون الناس، ولم تكن رابطة الجنس أو الوطن هي المؤهلة لنيل العضوية في الدولة الإسلامية، لأن الإسلام يحارب الإقليمية الضيقة، والعنصرية المتعصبة وإنما صارت العقيدة وحدها هي الرابطة الحقيقية بين المسلمين، والمؤهلة لنيل العضوية العاملة في الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه حرص الإسلام كل الحرص على أن يضمن العدل لمن أبوا الدخول في الإسلام وظلوا على دينهم لأن دولة الإسلام تنظر للإنسانية نظرة عامة وشاملة.

كان هذا هو التنظيم السياسي الذي حمله الفاتحون العرب في كل مكان ونشروا مبادئه في كل اتجاه، ويظهر أنه نظام ديمقراطي سليم يجعل السيادة للقانون في ظل الحرية والإخاء والمساواة.

اماالنظام الاقتصادي فلم يقل روعة عن ذلك النظام السياسي، فقد ألغت الدولة الإسلامية كثيرا من الضرائب التي كانت مفروضة من قبل، ولم تبق إلا على نوعين اثنين فقط هما: الجزية التي هي ضريبة تفرض على رؤوس أهل الذمة نظير المنعة لهم والدفاع عنهم، والخراج الذي هو ضريبة على الأرض التي استولى عليها المسلمون صلحا، أو عنوة كما يرى كثير من رجال القانون الإسلامي.

وبهذا الإجراء صارت الضرائب بسيطة، وزال الظلم الاجتماعي الذي كان يقع على كاهل كثير من المواطنين الذين أثقلوا بالضرائب الكثيرة، كما حددت الضرائب، وروعي في تحديدها مبدأ الطاقة، ففرض على الأغنياء أربعة دنانير لكل شخص كجزية سنوية، أما إذا كان الفرد من الطبقة الوسطى ففرض عليه ديناران، أما إن كان من الطبقة الدنيا، فيدفع دينارا واحدا، كما روعيت طبيعة الأرض جودة ورداءة في ضريبة الخراج.

وفي مجال الحرية الدينية حققت الدولة الإسلامية حرية العبادة، وأصبحت الطوائف غير الإسلامية تؤدي شعائرها دون إزعاج أو إكراه على الدخول في الإسلام، وبذلك حقق الفاتح الإسلامي بسماحته التفوق المعنوي، وبروحه النقدية تحقق التفوق العقلي في مواجهة التعصب الاستبدادي.

ومع إيماننا بأن التفوق العسكري للدولة الإسلامية كان له أثره في سير حركة الفتح الإسلامي بصورة عامة، إلا أن العامل الأساسي في تيسير حركة الفتح في الأندلس، ودفع الحركة الإسلامية تلك الدفعة القوية، إنما كان يكمن في هذا التقدم الكبير في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي جاءت به دولة الإسلام، مما أطاح في حركة خاطفة بالأنظمة المتعفنة، والتي كانت مبنية على الاستعباد والظلم، والتي سببت الجمود والعقم..

انتظرونا غدا ان شاء الله في الحلقة الخامسة، وحديث عن خطوات فتح الأندلس والقائد الأسطورة موسي بن نصير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © الإسلام و الأندلُس | تاريخ وحضارة

تصميم الورشه